حسن حاطوم
بقلم الأستاذ: حسن حاطوم
باحث في علم الآثار والمتاحف
شهبا مدينةٌ صغيرةٌ تبعد قرابة /٩٠/ كم عن دمشق و/١٩/ كم شمالي السويداء ؛ مركز المحافظة، وهي إحدى المدن التاريخيّة المهمّة في سورية، وتشتهر بأوابدها التي ما زالت شاخصة للعيان.
سكن العرب الأنباط شهبا، وبلغت المدينة أوج ازدهارها في عهد الأمبراطور فيليب العربي
/ ٢٠٤-٢٤٩م/، الذي يرجع أصله إلى هذه المدينة، فحافظ الأمبراطور على مبانيها العائدة للمراحل السّابقة لعهده، وبنى فيها مبانٍ جديدةً، تذكّر أطلالها اليوم بعظمتها وبالمستوى الفنيّ الرّفيع الذي وصلته، وبقدر ما هي كبيرة الأهميّة لعلماء الآثار فهي كذلك للسّائحين.
أراد الأمبراطور فيليب العربيّ أن يضفي على المدينة طابعاً معمارياً متميزاً تضاهي به كبريات المدن الرّومانية في الشّرق والغرب، وبخاصة مدينة روما ذاتها، فأقام فيها مبانٍ دينيّة (معابد) أو مدنية (ساحات عامة، قصور، حمامات، أقواس نصر، مسارح ...) وفي الوقت نفسه بنت العائلات النبيلة منازلَ فخمةً غنيةً بالزّخارف.
لمدينة شهبا أهميّة خاصة بين المدن الكلاسيكيّة في سورية ، وهي ذات نموذج رومانيّ الطّراز، فالشّارعان الشّمالي–الجنوبيّ (كاردو) والشرقي–الغربي (دوكومانوس) يتعامدان بانتظام، تشكّل نقطة التقائهما في الوسط مصلبة (تترابيل) محاطة بساحة بيضوية الشّكل، والمدينة محميّة بسور دفاعيّ مستطيل الشكل، وبوابات ضخمة على هيئة أقواس النصر، وترجع غالبية المباني الأثرية في هذه المدينة إلى فترة حكم الأمبراطور فيليب العربي (٢٤٤ - ٢٤٩ ميلادي).
المتحف ( الدارة الرومانية ):
عثر في شهبا على إحدى أغنى مجموعات الفسيفساء في منطقة الشرق، وذلك ضمن منازل فخمة أو قصور ، ومنها قصر الأمبراطور فيليب العربي الذي زينت أرضياته بلوحات من الفسيفساء، وهي تزين حالياً متاحف: دمشق، السويداء، شهبا، وتعتبر من أشهر الأمثلة على تطور هذه التقنية في الفن، منذ عصر الأمبراطور فيليب العربي وحتى القرن الرابع الميلادي.
في عام / ١٩٦٢ / قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بإجراء أعمال تنقيب ضمن أطلال قديمة تقع بالقرب من الحمامات الأثرية الكبرى في شهبا، أسفرت عن اكتشاف دارة هامة (فيلا) تتكون من / ٢٨ / غرفة. احتفظ بعضها بأرضيات مكونة من لوحات فسيفساء جميلة جداً، تمثل أشكالاً ووجوهاً نادرة جداً ومواضيع مفيدة ومشوقة جداً، ومن أجل المحافظة على هذه الفسيفساء في موقعها الأصلي، قررت المديرية العامة للآثار والمتاحف آنذاك إعادة بناء الجناح الذي كان بضمنها، والذي يشكل حالياً متحف شـهبا (أنظر الشكل رقم ١)، وكل لوحة فسيفساء منها مستوحاة من أسطورة يونانية قديمة تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد. تم تدشين وافتتاح هذا المتحف عام ١٩٦٩ بمناسبة انعقاد مؤتمر دولي في دمشق حول الآثار الكلاسيكية.
الشكل رقم (١): متحف شهبا (الدارة الرومانية)
في مدخل المتحف الرئيسي عرضت أجزاء من فسيفساء غير كاملة مستندة إلى الجدران، وهناك لوحة أخرى أبعادها / ٢,٧٠ × ١,٩٧ / م معروضة على الجدار الشرقي لصالة المدخل وهي كاملة، تمثل الإله ديونيزوس ( باخوس ) حاملاً بيده كأساً من الخمر، ويعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي، عثر عليها في أحد منازل مدينة شهبا. وتحتفظ الصالة الرئيسة من هذه الدارة بأربع لوحات فسيفساء ما تزال في مكانها الأصلي وهي الأكثر أهمية وتشويقاً، وهي:
١ - تيثيس (إلهة البحر):
فسيفساء محفوظة في مكانها الأصلي (أنظر الشكل رقم ٢)، أبعادها / ٤,٥ x ٤,٥ / م. صورت الإلهة في وسط اللوحة بشعرٍ كثيفٍ تختلط فيه الأسماك، وفوق جبهتها أجنحة صغيرة تحيط بحيوان نجمة البحر، وحيوان أسطوري عبارة عن تنين (دراكون) له رأس كلب يرمز إلى أعماق البحار، ويلتف مشكلاً طوقاً حول عنقها، ويستند مجذافٌ إلى كتفها الأيسر، وإطار اللوحة غني جداً، يتضمن أسماكاً كبيرة تختلط بآلهة الحب الصغار الذين يمتطون الدلافين والمراكب.
الشكل رقم (٢): لوحة فسيفساء تيثيس (إلهة البحر).
٢ - أعراس آريان وديونيزوس:
فسيفساء محفوظة في مكانها الأصلي، أبعادها / ٤,٨٠ x ٤,٦٣ / م. صورت الآلهة (آريان) و(ديونيزوس) في وسط اللوحة جالسين على العرش وحولهما هالة الألوهية، تتزين الإلهة آريان بالحلي الكثيرة والمتنوعة (أساور، أطواق، أقراط، إكليل (تاج) ...)، وتحمل كأساً بيدها، ويحمل الإله ديونيزوس صولجاناً، يقف خلف العروس إله حبّ صغير، يحمل بيده شعلة متوقدة ترمز إلى الرغبة، ويجمع (بوتوس) العروسين الجديدين، وفي بداية المشهد صور البطل (هيراكليس) جالساً على الأرض ثملاً، على وشك فقدان توازنه، يرافقه إله حب صغير (صياد) يبذل جهده محاولاً إيقافه، وتمثل الشخصية الأخيرة رجلاً عجوزاً له أذنان حادتان (ساتير) اسمه (مارون) يلتفت نحو الإلهة آريان ، ويدل بشكل يثير الانتباه إلى الكأس الذي تمسكه بيدها، إطار اللوحة مزخرف بأغصان عنب مزدوجة ، تتخللها صور حيوانات شاردة ومشاهد صيد، وقطاف العنب، وفي زوايا الإطار أربعة وجوه تمثل الفصول الأربعة.
٣ - مشهد أورفيوس يعزف بين الحيوانات:
فسيفساء محفوظة في مكانها الأصلي (أنظر الشكل رقم ٣)، مجاورة تماماً لسابقاتها من الجهة الشرقية، أبعادها / ٤,٧٠ x ٤,٦٣ / م. يجلس أورفيوس على صخرة يهيمن بقوته العملاقة على كل الحيوانات المحيطة به، ويعتمر قبعة فريجية (ترمز إلى الحرية في روما القديمة)، ويرتدي الزيّ الشرقي ويعزف على قيثارته، ويمكن التعرف جيداً على الحيوانات المتنوعة جداً والمحيطة به مثل: (الطاووس، النمر، الأسد (حيوان أسطوري)، النسر، الأفعى، الإوزة، الغزال، الفهد، الحصان، الثور، الفيل، الكلب، الفأر، العصفور ... إلخ)، وتبدو كل هذه الحيوانات خاضعة لسلطة أورفيوس. وإطار اللوحة مزخرف بشكل غني جداً ومزين بأشكال هندسية جميلة ووجوه بشرية صغيرة وأقنعة.
الشكل رقم (٣): لوحة فسيفساء أورفيوس.
٤ - غرام أفروديت وآريس:
فسيفساء محفوظةٌ في مكانها الأصلي، إلى الشمال من اللوحة السابقة، أبعادها / ٥,٨١ x ٥,٨١ / م. خلف الإلهة أفروديت فتاة شابة شعرها معقود ومرتد خلف الرأس وتدعى (كاريس) كما تشير الكتابة، أي (النعمة)، وهي تتأهب لتتويج الإلهة، وفي الجهة اليمنى بجانب الإله آريس (إله الحرب) صورة وجه نسائي آخر يرتدي ثياباً محتشمة، تبدو ملامح الوجه قاسية والشعر عادي مما يرمز إلى وقار في وضعية الجلوس، وفي المشهد الخلفي في الزاوية اليمنى صورت سيدة تدعى (سكوبي) كما تشير الكتابة، متكئة باسترخاء على صخرة ترقب المشهد عن بعد، وهناك آلهة حب صغار يتنافسون على كسب أسلحة الإله آريس.
عثر في الزاوية الشمالية الغربية من المتحف على غرفة لم تكن أرضيتها مفروشة بالفسيفساء، عرضت فيها قطعة فسيفساء منقولة من منزل قديم في مدينة شهبا نفسها وتمثل اللطائف أو (النعم الثلاث) في وضع استعراضي احتفالي ضمن مغارة على جبل الأولمب، محاطة بعدة أطر تتضمن أشكالاً نصفية بشرية، منها الفصول الأربعة، ودونت أسماؤها بجانب رؤوسها باليونانية.
إضافة إلى ذلك يوجد داخل المتحف رأس جميل من الرخام الأبيض، عثر عليه أثناء أعمال التنقيب في الحمامات الكبرى عام (١٩٧٠) عرض فوق قاعدة في الجهة الشرقية من المتحف ويمثل رأس الأمبراطور فيليب العربي معتمراً بالغار (أنظر الشكل رقم ٤).
الشكل رقم (٤): رأس الأمبراطور فيليب العربي، رأس من المرمر اكتشف في عام ١٩٧٠ بعد تنقيبات في الحمامات.
المصادر والمراجع:
١ - عامر، غالب: شهبا «فيليبوبوليس» مدينة الأمبراطور فيليب العربي. وزارة الثقافة، دمشق ١٩٨٢.
٢ - عثمان، سهيل؛ الأصفر، عبدالرزاق: معجم الأساطير اليونانية والرومانية. وزارة الثقافة، دمشق ١٩٨٢.
٣ - زهدي، بشير: الأمبراطور فيليب العربي. وزارة الثقافة، دمشق ١٩٩٠.
٤ - عدد من المؤلفين: سويداء سورية، موسوعة شاملة عن جبل العرب. دار علاء الدين، دمشق ١٩٩٥.
٥ - حاطوم، حسن: فيليبوبوليس، مدينة شهبا القديمة ومتحفها. دمشق ١٩٩٦.
- GRIMAL, Pierre : Dictionnaire de la mythologie grecque et romaine. PUF (Presses Universitaires de France),1994.
- HATOUM, Hassan : Canatha and Philippopolis. Damascus 2001.
مجلة الملتقى
الإصدار الثاني
الإعجابات: 0
التعليقات: 0
المشاهدات: 1089