د.فندي الدعبل
قصيدة البيت الواحد في الشعر العربي الحديث
لقد تمّت دراسة ( قصيدة البيت الواحد في الشعر العربي القديم ) في العدد الماضي من مجلة الملتقى، وكنّا قد أدرجنا بعض الآراء والاتجاهات النّقدية التي تذهب إلى القول إن قصيدة البيت الواحد هي تجنٍّ على جهد وعناء الشاعر في انتقاء أبيات متسلسلة للوصول إلى غايته و هدفه، فالبيت الواحد قد يقلّل من شأن باقي الأبيات.
أما الاتجاهات النّقدية الحديثة والمعاصرة، فقد قالت: إنّ الشّعر الحديث يتّسع أيضًا لمفهوم البيت الواحد، والشّعر الحديث يستطيع تقديم نماذج كثيرة و أمثلة عديدة ينطبق عليها معنى قصيدة البيت الواحد و ذلك رغم البناء الجديد والمغاير للقصيدة الحديثة.
ولعلَّ ترقيم الفقرات التي ابتدعها بعض الشعراء هي البديل عن البيت الواحد أو قصيدة البيت الواحد.
وكذلك قد يكون تقسيم القصيدة إلى مقاطع عديدة لا يجمعها سوى إطار القصيدة إجراء مناسباً للتعبير عن حالة البيت الواحد، حيث يشكّل كل مقطع بيتاً واحداً.
والشّعر العربيّ الحديث غنيّ جداً بمثل هذه النماذج، و لو أخذنا المقطع التّالي للشّاعر نزار قباني
من قصيدته ( مرسوم بإقالة خالد بن الوليد ) :
يا صلاح الدين
ماذا تنفع الكلمة في هذا الزمان الباطنيّ..
ولماذا نكتب الشّعر..و قد
نسي الله الكلام العربي.
هذا هو المقطع الثامن من تلك القصيدة المرقّمة إلى ثمانية أجزاء، وقد اعتبره النّقاد بمثابة البيت الواحد.
وفي مسرحية شعرية تجريديّة نجد هذا المقطع لأدونيس :
هذا الوطن
زرع
و الأيام جرادة.
وهو تشكيل مقطعي اعتبره النقاد بمثابة البيت الواحد.
وقد ذهب بعض النّقاد إلى أنّ مردّ التّرقيم أو التّقسيم الذي سار عليه قسم من شعراء الحداثة، أنّه يعود إلى التّأثر بالتّيارات الغربيّة في الشّعر الحديث، وقد اعتبروه تقليداً سطحياً غير منسجم مع روح القصيدة العربيّة، وهناك بعض النّقاد الذين يرون أن القصيدة العربيّة و خاصة القديمة انتهت إلى أن تكون بناءً مركباً من عدّة قصائد، و خاصة في القصائد الطوال، وبالتّالي فإن تقديم أيّ مقطع وإخراجه من القصيدة لا يشكّل عدواناً على النّص الذي يجمعها، وهناك فريقٌ آخر من النّقاد سوّغوا التّقسيم أو التّرقيم في النّص الشّعري، معلّلين ذلك بأنّ الشّاعر الحديث تعرّض إلى أنواع متعدّدة من الضّغوط جعلته يرقّم أو يقسّم قصيدته استرضاءً لهذه الضّغوط، و ترك لنفسه قسماً فرّ إليه هارباً من تلك الضغوط، فتمّ التركيز على هذا القسم لأنه يمثّل تجربة الشاعر ووجدانه الحقيقي وموقفه من الحياة، واعتبر هذا القسم بمثابة البيت الواحد.
ونلاحظ اختلاف النّقاد في الرؤية الجماليّة للبيت الواحد بين الشّعر القديم والحديث، حيث نجد:
1- الفئة القليلة منهم قالوا : إنّ البيت الواحد لا علاقة له بالزّمن الشّعري، طالما إنه وحدة منفصلة نستطيع أن نخرجها ونعيدها متى شئنا، وبالتالي نظروا إلى أهميتها الجماليّة لا الزمنيّة.
2- الفئة الكثيرة قالت: إنّ البيت الواحد لا يستقيم جماله إلا في القصيدة العاموديّة (ذات الشّطرين)، لأنّ بناءها ووزنها ومطلعها وقافيتها تكاد تكون مرسومة في الذّاكرة، و هذا ما جعلنا نَسِمُ الشّعراء إما بمطلع قصيدة لهم، أو بقافيتها أو قيمتها التاريخيّة كأن نستشهد عند وقوع حدث ما ببيت الشّعر المناسب دون ذكر صاحبه مع معرفتنا الكاملة به.
لقد أثار بحث قصيدة البيت الواحد الجدل بين النّقاد و هذا ما أشرنا إليه سابقاً، لكن معظمهم وعلى اختلاف مشاربهم الأدبيّة، لم يذهبوا إلى تبيان الملمح الجماليّ الذي اكتنزته قصيدة البيت الواحد، حيث نجدهم مهتمّين بدقة توظيفها أكثر من الانشغال بتفكيكها وإظهار مكوناتها الجماليّة، فمعظم الدّراسات لا تظهر اهتمامهم بوحدة وشمولية الفكرة ودهشتها ومفارقتها، وعذوبة اللغة، وسهولة الحفظ، وتقاطعاتها المختلفة مع الأقوال المأثورة و الأمثال السائرة، كما أنهم لم يذهبوا إلى أبعد من ضرورة الاستشهاد و التوظيف السليم لقصيدة البيت الواحد دون التثبت أو التأكد من هوية الشّاعر، و هذا ما زاد الأمر فداحةً، فبالإضافة لخفوت بريق معظم أبيات القصيدة أمام بيت القصيد، نجد أيضا تجاهل اسم الشاعر وعدم معرفته، ما جعل الطريق مفتوحاً وسهلاً أمام ما يمكن تسميته بالنّحل أو الدّس و بالتالي التشريع للسّرقات الأدبيّة، تلك السّرقات التي أثارت وماتزال الجدل والنقاش حول قبولها أو رفضها، وهنا نرى و استكمالاً لما سبق أن نثير هذه الفكرة متسائلين :
هل ساهمت قصيدة البيت الواحد بإعلاء شأن القصيدة التي تحتويها على حساب المجموع الشعري للشاعر نفسه ؟ وبالتالي هل ساهمت أيضاً برفع مكانة الشاعر من خلال وسمه بتلك القصيدة ؟
ولتوضيح الأمر أكثر نطرح السؤال التالي على سبيل المثال لا الحصر :
- ألم تلتصق قصيدة أنشودة المطر باسم بدر شاكر السّياب؟
- هل طغت هذه القصيدة على باقي نتاج السّياب الشّعري ؟
- هل يمكننا أن نتخيل أن قصيدة أنشودة المطر ليست للسّياب؟ و بالتّالي هل ستتغير رؤيتنا للقصيدة و شاعرها عند ذلك ؟
- هل سنرجع إلى نتاج السّياب الشّعري للبحث عن قصيدة البيت الواحد الأخرى التي تسدّ مسدّ القصيدة المفقودة؟
أمام هذه التّساؤلات وغيرها، نرى أن قصيدة البيت الواحد قد ساهمت بصبغ شاعرها بلونها الدامغ، وجعلته أسيرَ سحرها وطغيانها وديمومتها رغم ولادتها من رحم يراعه، وتشكيلها لوحدة مستقلة سواء أكان ذلك في الشّعر العربيّ القديم أو الحديث .
مجلة الملتقى
الإصدار الخامس
الإعجابات: 3
التعليقات: 1
المشاهدات: 871
نزار الشوفي
كل الشكر لكم ناقدنا الجميل على هذا البحث المميز والممتع وعلى هذا الجهد الكبير ..