د.فندي الدعبل
الصورة في الشعر العربي
إن دراسة الصّورة الشّعريّة في المنظومات الشعرية المختلفة، أشبه ما تكون بدراسة المحركات في الآلات الصناعية بكل تعدداتها و مسمياتها، و تُعقد المقارنة على مفهوم الأهمية والأولوية، فكما أنه لا يمكن للآلة الصناعية أن تعمل بلا محركٍ مغذٍ ّ، فإن الشعر يصبح لا شعراً عندما يتخلّى عن اكتنازه للصورة الشعرية، لأن الشعر بأبسط أشكاله يتألف من حدّين رئيسين هما الصورة والإيقاع، لكنّ الصورة تأتي في المقام الأول نظراً لعلاقتها المباشرة بالمخيلة الإبداعية التي لا تهتم بالإيقاع أبداً، فالإيقاع قد يكون معروفاً لدى المتلقي وذلك بخلاف الصورة التي غالباً ما تكون مجهولة لدى المتلقي والشاعر معاً، فالشّاعر لا يعرف ماهية الصورة ولا آلية التعبيرعنها قبل التقاطها، وابتداعها في المخيلة الخلفية أي في مرحلة المخاض الإبداعي على رأي الناقد عبد الملك المرتاض، وكذلك المتلقي، فهو لا يعرف الصورة أبداً قبل سماعها، وهذا ما عبّر عنه بعض النّقاد بقولهم :
( إن القصيدة هي صور خالصة تشبه تمثالاً من البلّور ).
إن تعمّقنا في دراسة الأدب العربي نجد النّقاد العرب الأوائل قد أولوا أهمية كبرى للصورة الشعرية، لدرجة أن الجرجاني مثلاً يقرّ بأن الصّورة هي الشّعر كله، أما ابن طباطبا فقد عبر عنها بأنها انكشاف غطاء الفهم من خلال اقتناص الأشياء الكامنة في النفوس وانتقالها من المجهول إلى المعلوم، وهذا ما عبّر عنه لاحقا النقدة الغربيون واصفين الصورة الشعرية بأنها استكشاف الأشياء، أي معرفة غير المعروف لا المزيد من معرفة المعروف.
-علاقة الصورة الشعرية بالجمال
لقد اختلفت الآراء حول مفهوم الجمال في الصورة الشعرية، ولا سيما النقاد الغربيون، فالمألوف عندهم أنّ مفهوم الجمال كان يُستخدم لإبراز القيم الإيجابية الجيدة الرائعة، لكن قسماً منهم، ومنهم بودلير مثلا نجده ينادي بفلسفة القبح الجمالي حيث قسّم الجمال إلى قسمين:
1- جمال غير عدواني أي غير مثير وهو المألوف لدينا والراسخ في تفكيرنا.
2- جمال عدواني وهو جمال مثير يولّد المفاجأة حيث يوقظ في القبح سحراً جديداً لذيذاً.
وهنا وحسب هذا الرأي يمكن احتساب القبح قيمة جمالية ويمكننا تقسيمها إلى إيجابية وسلبية أيضاً، فالقبح ليس ضد الجمال من ناحية القيمة بل من ناحية الإثارة والتنبيه.
- تعريفات مختلفة للصورة الشعرية....
1- في علم النفس: نجد أنّ الصورة تمثّل إعادة إنتاج عقلي لمواقف قديمة مرت، وقد لا تكون هذه المواقف بصرية بالضرورة فقد تكون عاطفية مثلا، تم ترجمتها عبر مخيلة إبداعية ولغة موائمة.
2- ريتشاردز: يقول إن الصورة أثرٌ خلّفه الإحساس على نحو لا يمكن تفسيره حتى الآن.
3- حازم القرطاجني يشير إلى أن الصورة عملية تخيلية تجريدية تتم في رعاية العقل، أي أن العقل هو مصدر الصورة وليس الإحساس إلا وسيطاً لتكوين الصورة.
4- عزرا باوند: يرى أن الصورة تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة محددة من الزمن قد يلتقطها عدة أشخاص لكن كلّ منهم يعبر عنها بطريقة مختلفة عن غيره.
5- أبو القاهر الجرجاني: الصورة عنده قياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا.
أمام هذه التعريفات المختلفة زمانياً ومكانياً نجد النقاد يقرّون بأولوية الدور العقلي في بناء الصورة، وهذا ما جعلهم يفرقوا ويميزوا بين الخيال والتخيّل حيث قالوا :
- الخيال طفيلي عفوي مشترك بين كل الناس.
- التخيّل إرادي عقلي يلازم المبدعين.
(العلاقة بين المتلقي و الشاعر والصورة الشعرية):
من خلال ما سبق يمكننا أن نلاحظ الإجماع على مسألة تبدو في غاية الأهمية وهي أن الشعر هو الذي يحدد مواقف القارئ أوالمتلقي وفي ذلك يكمن إبداع الشعر، لأن قراءة الشّعر هي عملية تعاون بين الشاعر والمتلقي، حيث يقوم المتلقي بإدراك حدس الشاعر الأصلي وإجلاء غموض الصورة.
إن فاعلية المتلقي لا تعني أكثر من إعادة إنتاج الصورة الشعرية.
والسؤال الذي يتوجب علينا طرحه هنا :
لماذا يجب على المتلقي إعادة تكوين الصورة الشعرية؟
قد يكمن الجواب في أنّ المبدع يقدم صوراً غير جاهزة وغير معروفة لدى المتلقي، عندها يحاول المتلقي تحليل وتفكيك الصورة مستنداً على ثقافته التراكمية للاستهداء إلى شيفرة الصورة وربطها بالسّياق المناسب لها في النص، لأن معنى الصورة الشعرية إنما يكون على شكلين :
1- معنى تظهره الألفاظ بصورة مفردة منفردة.
2- معنى تظهره الألفاظ في السّياق العام لفهم النص.
وما المعنى الشمولي الكلي في النص الشعري إلا تلك العلاقة القائمة بين مختلف الصور، أي ما يمكن تسميته بتزاوج الصور، وذلك بعد القيام بتظهير كل صورة على حدا ثم ربطها معا...
وفي نهاية هذا المبحث لابد لنا من بعض التساؤلات التي يثيرها..
1- إلى أيّة درجة يساهم الغموض الشديد للصورة وعدم قدرة المتلقي على تفكيكها إلى تشكيل تصور مناسب لمضامين النص ولو بشكل تقريبي؟
2- هل تتعارض النظرية التفكيكية للنص (جاك ديريدا)، والقائلة بأنّ النّص له قراءات لا نهائية مع مفهوم تحديد دقيق للصورة واستنتاج معناها النهائي ؟
3-عندما نطلق الحكم على أن الصورة بكل مكوناتها من لغة وابتكار جديد ودهشة هي الشعر، وأن الشعر بدونها لا شعر، ألا نكون قد تجنينا على باقي مرتكزات الشعر من إيقاع و موسيقا ووزن؟
ثم ماذا لو كان النص مزدحمًا بالصّور المدهشة المبتكَرة لكنّه عديم الموسيقا خال من الإيقاع؟
أليس من الأفضل أن نسلّم بالنظرية القائلة بشمولية العملية الشعرية من لغة و صورة وموسيقا، دون المفاضلة بينها، ونشمل بذلك أيضًا قصيدة النثر التي يجب أن تكون غنية بموسيقاها الداخلية ؟
مجلة الملتقى
الإصدار السابع
الإعجابات: 2
التعليقات: 1
المشاهدات: 832
زياد القنطار
النقد هو جلاء الرؤية، وجملة بحثية تركز على ماسبقها وتنطلق عبر لغتها وفتح فضاءات قرائية جديدة، تحرك الراكد وتبعثه حيرة في فم الإجابات. الدكتور فندي الدعبل الباحث الأجمل والرؤية المتجددة