د.فندي الدعبل
التدوير في الشعر العربي
لقد ظهر التدوير في المراحل الأولى لنشوء القصيدة العربية التقليدية، كإجراء حافظ للوزن الشعري، وهو كما يدلّ على اشتراك الشّطر الأوّل مع الشطر الثّاني بكلمة واحدة يكون بعضها في آخر الشّطر الأوّل وبقيتها في أوّل الشّطر الثاني، وذلك لإتمام الوزن وعدم إخلاله، وبذلك نستطيع القول أنّ التّدوير ظاهرة موسيقيّة في المقام الأوّل تسعى لإحداث بنية مكمّلة في التّشكيل الإيقاعيّ للنّص.
أما في الشّعر الحديث فنلاحظ أن تقنية التدوير قد طالت مقطعا أو أكثر من القصيدة بغية تلوين البناء الموسيقي للقصيدة العربية الحديثة، وذلك من خلال خضخضة النبض الإيقاعي الذي بدأ مستقراً قليل التنوع.
أهداف التدوير
1- إحداث شيء من الخلخلة لنبض القصيدة على المستوى الإيقاعي.
2- مس الفضاء الزمني للقصيدة من خلال اللجوء المتعمد إلى قصر التفعيلة وبالتالي تحريكها، أو إشباعها وبالتالي تسكينها
3- تكريس السّطر الشّعري أو الوحدة الشعريّة بدلاً من البيت الشّعري التّقليديّ.
4- تحقيق وحدة نغمية كليّة ناجمة عن التّعدد و التّنوع في النّغمات بين السّطر الشّعريّ وآخر، وبالتالي تحقيق جملة كبرى ينتظم النص فيها.
مما سبق نستنتج أن تقنية التدوير تُعدّ خرقاً شكليّاً واضحاً للبنية الشعريّة التقليديّة القائمة على التّكامل العروضيّ والدّلالي المعتاد على الرتابة، والذي لا يخضع لأي مفاجأة، لذلك نجد أنّ التّدوير يسعى إلى إحداث تلك المفاجأة، عبر إدخال وحدة عروضية إيقاعية مغايرة للسياق العام للنص، حيث تتكرر هذه الوحدة وفق نماذج معينة مدروسة يراها الشاعر ضروريةً لإحداث تلك الخضخضة الإيقاعية، لذلك نجد أن التدوير يولّد انسيابية شعرية يُطلب رصدها من قبل المتلقي، و هذا ما يشكّل .:فرقاً جوهريّاً بين التدوير والوقفات التي تسبب كسوراً غير محببة في المنجز الشعري على مستوى الموسيقى والإيقاع.
لذلك نجد بعض الآراء النّقدية تجهر بأنّ التخلّص من القافية كمظهر موسيقي، لابد من تعويضه من خلال تجمعات صوتية متجانسة، فهل تستطيع تقنية التدوير أن تقوم بالدور (المعاوض) و تعويض الفاقد الموسيقي؟
إن وقوع التدوير على مستوى التفعيلة فقط جعله يفتقر إلى الجماليات التقليدية للشّعر كرهافة القافية وشكل الأبيات الخارجية والوقفات المعبرة، والتي لا يمكن تعويضها إلا بفيض شعريّ يحفل بالتموّج والمفاجأة، ولغة مشحونة بالدّهشة، وتوظيف صور باذخة ثرية بالتضاد والمفارقات الحادة، عندها يأتي دور التدوير كتقنية داعمة تقتطف الدّهشة وتغني ما سبق ذكره، أمّا إن جاء التدوير بغير ذلك فإنه يحيل النّص إلى نثر فاضح، وهنا لابد من طرح السؤال التالي:
ما هي الوسائل التي تقضي على رتابة التدوير و تجعله يلعب دوراً فاعلاً ؟
1- المزاوجة بين الطريقة الكلاسيكية والحديثة في الشكل البنائي للقصيدة، كأن يدخل الشّاعر مقطعاً من نمط التفعيلة في القصيدة العمودية أو العكس، و يتم تكراره حسب ما يرى الشاعر أنه يلبّي انفعالاته.
2- الجمع بين أكثر من وزنين شعريين، حيث نجد بعض الشعراء قد نزعوا إلى استخدام نمطين مختلفين من التّفعيلة في القصيدة الواحدة، إيماناً منهم بكسر رتابة الإيقاع الموسيقي للنّص بشكل عام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى زيادة حرية الشاعر التعبيرية فلا يبقى محكوماً لقيد ما.
3- الجمع بين الشعر والنثر في النص الواحد..
بعض الشعراء يعتبرون لغة الشعر لغة رصينة هادئة تخفف من غلواء التدفقات الشّعرية، فيعمدون إلى مثل هذا الإجراء لإضافة شيءٍ من الحيويّة والديناميكية الحركيّة للنّص.
4- استخدام الأبيات المقفاة المتفاوتة الطول ..
نجد بعض الشعراء يذهبون إلى توظيف قافية موحّدة في نهاية كلّ مقطع، يتحكم في طولها أو قصرها، الدفقة الشعورية أو ما يمكن تسميته الوحدة الشعريّة المتكاملة، وبذلك منجاة للشّاعر من الوقوع في التصنيع الشعري المبتذل، وهنا يرى بعض النّقاد أن الجمالية الإيقاعية لهذا الإجراء يدعم و يسند التدوير الحادث في المقطع نفسه.
5- إغناء النص بالقوافي الدّاخليّة..
إن هذا الإغناء يساهم في زيادة الإيقاع الموسيقيّ من جهة، ويهيئ المتلقي لقبول التّدوير الدّاعم له من جهة أخرى.
6- أخيراً: إن التدوير له علاقة مباشرة بالتفعيلة وجوازاتها فقط، وأسلوب تكرارها سواء أكانت تفعيلة صحيحة أو مخبونة، فلو تناولنا سطراً شعرياً واقعاً في المقطع الأول لقصيدة ما، وقمنا برصدها فوجدناها كما يلي:
فاعلن..فاعلن..فاعل
فاعلن..فاعلن..فاعل
نلاحظ أن التفعيلة حضرت كما يلي:
اثنتان صحيحتان و واحدة مجزوءة أو مخبونة.
ثم نذهب إلى المقطع الثاني من القصيدة نفسها ، وقمنا برصد التدوير كيف حدث، فوجدناه كما يلي:
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن
فاعل فاعل
نلاحظ أن التفعيلة قد جاءت صحيحة أربع مرات ومخبونة مرتين، أي بشكل مضاعف عما ورد في المقطع الأول.. أي أنّنا نلاحظ نشوء علاقة رياضيّة للتدوير في المقطعين وهذا جانب إيقاعي مهم لابد أن ننتبه إليه جيداً، هذا إن لم يفرض نفسه علينا فرضاً، وقد نجد في المقطع الثالث من القصيدة أن الشّاعر عاد إلى التدوير كما في المقطع الأول، أو أنّه ضاعف التدوير عما ورد في المقطع الثاني.
نهاية لا بد من طرح السؤال التالي:
إلى أي مدى يمكن للشاعر أن يوظف تقنية التدوير دون اللجوء للتصنيع الشعري الذي يدل على تكلف و عناء النظم ؟
بمعنى آخر ما هي الحدود الفاصلة التي تفصل بين التدوير كتقنية إيقاعية مدروسة في الشعر، وبين التدوير كتقنية فائضة غير مفيدة في النص؟
هذا السؤال تجيب عليه القصيدة وحدها، وما علينا إلا أن نحكم عليها قبولاً سلسبيلاً أو رفضاً ممجوجاً.
مجلة الملتقى
الإصدار الثامن
الإعجابات: 2
التعليقات: 1
المشاهدات: 656
زيدان عبد الملك
ويبقى لقلم الدكتور فندي إبداع التغلغل في ثنايا القصيد ورصد النغمة والايقاع بحسه المرهف. سلمت يداك ناقدنا الجميل