د.فندي الدعبل
التأويل في الشعر العربي
تعريف التأويل..
هو جهد فكريّ لغويّ يقوم به المحللون والنّقاد كي يعطوا النّصوص الأدبيّة معانٍ لا تقدّمها تلك النّصوص عند القراءة البكر لها، فالنّص الشّعري كالعروس التي تتمنع وتتدلّل فلا تعرض مفاتنها دفعةً واحدةً، لذلك نجده قد يستعصي على الفهم من المرّة الأولى، أي القراءة السّطحية السّاذجة، فيتوجب العودة والتّكرار وبذل الجهد للوقوف على مكتنزات النّص الداخليّة، فالمفرادت أو الأنساق التعبيريّة أو الجمل الشّعرية قد تحتمل تأويلات لم يقصدها الشاعر، أو تُفسَّر تفسيراً مناكفاً أو مغايراً للسياق العام للنص، مما يُعطي نصًا مختلفَا عما يقصده الشّاعر، لذلك نجد أنّ التأويل يمثّل رحلة القارئ من المباشر إلى غير المباشر، ومن الشكل الدلالي للجملة إلى المعنى العميق لها، أي إقامة علاقة جدلية بين الدوال والمدلولات كما جاء في كتاب ( تشريح النّقد ) للناقد (نور ثروب فراي ).
و في هذا السياق يقول د. مصطفى ناصف أيضا:
إن التأويل قراءة ودود للنص يستلزم الدراية و الخبرة و المعرفة العميقة في علوم اللغة المختلفة كي نقف على أكبر عدد ممكن من الاحتمالات الراشحة من النص و الكامنة فيه.
وهناك الكثير من الأمثلة على تأويل المعاني و المفردات ، نذكر منها على سبيل المثال:
1- حين نقول فلان كثير الرّماد، فنحن بالتأكيد لا نريد المعنى المباشر لها، وإنّما نقصد بها أنّ الرّجل كثير الضيوف وهذا يتطلب منه إشعال النّار لإطعامهم وبالتالي يكثر رماده، وهذا القول دلالة نهائيّة على كرم الشّخص وسخائه.
2- وكذلك عندما نقول إن فلانة بعيدة مهوى القرط، فإننا نكنّي عن طول عنق الفتاة.
3- وحين نقول إن فلانا يشكو من قلة الفئران، فإننا نكنّي بذلك عن بؤس وفقر الرّجل.
من خلال ما سبق ندرك ضرورة وأهمية التأويل في إكساب الجملة الشعرية بعداً جديداً مختبئاً في الطبقات العميقة للنص، هذا التأويل الذي تشكّل من خلال تورية حساسة شديدة الذّكاء، وهنا لابد للقارئ النييه أن يدرك أن المعنى البعيد للتأويل لا يلغي بالضرورة المعنى القريب السّطحي له، فالقول أنّ الرجل يشكو من قلة الفئران يحتمل كناية بعيدة تدل على الفقر، ومدلولا مباشرا للقول يدل على قلة وجود الفئران أصلا التي تأتي طلبا للطعام.
كما أننا يجب أن نميز بين التأويل الجاد الحقيقي النابع عن دراسة وعلم ومعرفة دالة على نضج نقديّ رفيع المستوى، وبين التأويل الذي يحركه التخمين والشطح والسفر خارج حدود ومدارات المعنى المراد، مما يؤدي إلى تشويه المعنى المراد، وتقليل جمالية التذوق.
مرتكزات و أسس التأويل
أولا: النّص المؤوّل
إن النصوص الشعرية كثيرة جدا وقد تكون غنية أو فقيرة بالصور القابلة للتأويل، فالنصوص الواضحة سرعان ما تبيّن عن هدفها لحظة القراءة الأولى، والعكس صحيح تماما.
لذلك تقسم النصوص إلى:
1- نصوص مفتوحة،
يصل المتلقي إلى معانيها على وجه الاحتمال.
2- نصوص مغلقة
غالبا ما تكون ذات معنى وحيد وهذه المعاني ضحلة.
3- نصوص مستغلقة
لا نحصل منها على فائدة حقيقية، وهي نصوص تؤرق المتلقي ولا تورق له، وإذا طال البحث فيها قد يكون الناتج الدلالي خشناً ووعراً، وبالتالي ابتعاد القارئ عن الشاعر ذاته، وهذا ما جعل بعض النقاد يقول :
إن الشاعر المبهم شاعر حزين لأنه لن يجد من يقرأ له.
و هناك أسباب كثيرة وراء العجز عن فهم أهداف الشاعرمنها :
1- قلة ثقافة الناقد وسذاجة تناوله للنصوص.
2 - كذلك إثقال النص بالإبهام دون دلائل ومرتكزات واضحة تشكل مفاتيح الدخول إلى النص.
3- هناك عامل مهم جدا هو عامل التجديد اللغوي ، فكلما بعُدت المسافة الزمنية بيننا وبين زمن كتابة النص، زادت الصعوبات في فهم جوانب عديدة فهمًا مقنعاً، فالقطيعة الزمنية قد تفضي إلى إلى قطيعة فكرية، فمثلا نجد الفقيه عمرو بن العلاء يقول عن شعر امرئ القيس:
* ذهب من كان يفهم هذا *
علمًا أن عمرو قد جاء بعد امرئ القيس بحوالي قرنين فقط، فما بال النّقاد في العصر الحديث الذين يتناولون الشّعر الجاهلي مثلاً دون علم ومعرفة بمفردات اللغة الدارجة آنذاك .
ثانياً: صانع التأويل(الناقد)
قال الجاحظ:
كلما كان اللسان أبين كان أحمد، و مدار النص على البيان والتبيين.
وقال المتنبي:
ابن جني - وهو أحد نقاد المتنبي المعاصرين له - أعلم بشعري مني.
هذا يعني أن الناقد الحصيف ربما يكون أدرى بأسرار الشّعر من الشاعر نفسه، وقد يكون أعرف من الشاعر في الصور البيانية والجوازات الشعرية والدقائق اللغوية، فالكثير من النقاد يفاجئون الكتاب والشعراء بإعطاء معانٍ لنصوصهم لم تدرِ في أذهانهم.
على سبيل المثال عندما مدح المتنبي كافور الإخشيدي في بيته الشهير :
وما طربي لما رأيتك بدعةً
لقد كنت أرجو أن أراك فأطربُ.
وكان التفسير يذهب باتجاه المديح، وعندما سئل المتنبي ابنَ جني في ذلك المديح أجابه:
لقد مسخت الرجل قرداً !!
بالمقابل نجد الكثير من الصور السّلبية التي أوّلها النّقاد تدل على فهمهم القاصر للشعر، وذلك كما فسر ابن وكيع بيت المتنبي :
وردٌ إذا ورد البحيرة شاربا...
ورد الفرات زئيره والنيل.
فزئير الأسد واحد سواء أكان في البرّ أو في الماء، لكن أن تُضيّقَ الصورة وجعل زئير الاسد لا يُسمع إلا في الماء - كما ذهب ابن وكيع - فهذ تشويه لجمالية هذه الصورة المائية، فإذا زأر الأسد في بحيرة طبريا وصل صوته إلى الفرات والنيل.
و هنا نقف على انتهاكات لا حصر لها من قبل النقاد، حيث أوّلوا قسماً من النّصوص الشّعرية بما لا يقبله المنطق الإجرائي لسير النّص، وجعلوه ينطق بما لم يكتنزه أصلا في خارجه فضلا عن داخله.
ثالثاً: مآل التأويل
يقول الناقد مصطفى ناصف :
إن التأويل هو مساءلة النصوص لنعرف مدى قدرتها على أن تتحدث إلينا.
إذن..
نحن نقوم بتأويل النّص لقطف ثماره الظاهرة والمخبوءة معا، فالمعنى الظاهر تشير إليه القشرة اللغوية السطحية للنص، وقد لا تحتاج إلى الكثير من الجهد والتفكير لمعرفة رؤيتها ومقصدها النهائي.
وعلى العكس مما سبق نجد أن بعض النّصوص إنما تحتاج إلى جهد فكري خلّاق، وحصيلة لغوية وفيرة، وذائقة بالغة الحساسية، وخبرة كبيرة متراكمة في قراءة وتشريح وتفكيك النصوص،
كي يتسنى للناقد الوقوف على الرسائل الدخلية التي يبثها النص والتي غالبا ما تكون مغلفة بطبقة شفيفة من الغموض، وكذلك كي يقف الناقد على تفاعلات النص مع النّصوص الأخرى.
لقد ضاعت الكثير من النّصوص، وشُوّهت من قبل بعض النقاد الذين لم يهتدوا إلى مآلها ومقصدها وذلك تبعًا لعوامل عديدة تم استعراضها سابقا.
أخيرًا...
هذا البحث يطرح أسئلة عديدة تحتاج لشروحات مطولة، ودراسات مستفيضة للإلمام بجوانبه كافة.
لكنه يجب التأكيد على عدم إصدار أحكام مطلقة أحادية للنّص، لأن الكلمات تتمتع بمراوغة غير قليلة حيث تقول شيئًا وتخفي أشياء.
يجب عدم إغفال دور الكلمة في النسق التركيبي، فبعض الكلمات تأخذ المتلقي باتجاهٍ ما، ثم تغير وجهته عند انتظامها في الجملة الشعرية، وهذه نقطة بالغة الحساسية لحجب ثغرات التواصل بين المتلقّي والنّص.
.......................
د. فندي الدّعبل ... سورية
مجلة الملتقى
الإصدار التاسع
الإعجابات: 1
التعليقات: 1
المشاهدات: 938
زيدان عبد الملك
دكتورنا الجميل، لك وافر التقدير لهذا الجهد الكبير الذي تبدله في تسهيل البحث وتقديم بصورة واضحة، وعرض شيق، ولغة رشيقة، بعيدة عن المصطلحات والتقعير، بارك الله في قلمك ليقدم كل مفيد وجميل. قوافل من الأمنيات مع خالص تحياتي.