logo

بحث

د.فندي الدعبل

موسيقيا قصيدة التفعيلة وبعض عيوبها...

يمتاز الشعر العربي منذ القدم بأنه كلام ذو توقيع موسيقي بحت، ينفذ إلى قلوب سامعيه ومتلقيه بعذوبة وسلاسة، وإن الصياغة الشعرية من جهة الموسيقا إنما تمثلت في بحور الشعر والأوزان الخليلية والحضور الطاغي للقافية.

وهنا نستطيع القول أن القصيدة العربية وصلت إلينا ناضجة مكتملة، وذلك عبر خط بياني زمني امتد قرنين قبل الإسلام وصولا إلى منتصف القرن العشرين بعد الميلاد تقريبا، وهذا يعني أن الأذن العربية ألفت واعتادت هذه الأوزان وإيقاعاتها المختلفة.

لكنه وفي الجانب الآخر ظهرت وبرزت بعض دواعي التغيير والتجديد في أربعينيات القرن العشرين، على يد كوكبة من شعراء العراق كالسياب ونازك الملائكة وغيرهم حيث نادوا بضرورة خلخلة أوزان الخليل وكسر الرتابة والنمطية المتبعة في البناء الشعري، فذهبوا إلى ما يُسمى بقصيدة التفعيلة التي باتت معروفة جيدا بوقتنا الحالي.

ونحن في هذا البحث لسنا بوارد دراسة آليات التحول وأسبابها ومفرزاتها، ولسنا بصدد دراسة قصيدة التفعيلة وميزاتها وخصائصها الفنية، بل سنتناول بحثا يبدو على غاية من الأهمية وهو بعض العيوب التي طالت الجرس الغنائي في قصيدة التفعيلة، هذه القصيدة التي تعتمد في هندستها المعمارية على هدم نظام الشطرين، والتخلص من العدد المتساوي للتفعيلات في كل شطر، والخلاص من التباس القافية والروي، واعتماد تفعيلة واحدة في هيكلها البنائي.

 لنجد أنفسنا أمام السؤال التالي :

هل استطاعت قصيدة التفعيلة بظل غياب الإيقاع الموسيقي الناجم عن تنوع التفعيلات في البيت الشعري، أن تسدّ مسدّ القصيدة ذات الشطرين ؟

أم أنها استقطبت جمهورًا خاصًا بها وسارت بمحاذاة سابقتها بعد أن أخرجها عدد من النقاد من دائرة الشّعر و لا سيما العقاد ؟

إن الغريب و الطريف بالأمر أن بعض أصحاب شعر التفعيلة عادوا إلى القصيدة ذات الشطرين غير متحرجين بذلك، وقالوا إن المزايا الكثيرة التي تمتاز بها قصيدة التفعيلة لا يعفيها من بعض العيوب ولا سيما على مستوى الموسيقا، فنجد نزار قباني يقول:

* لقد أيقنت أن التحرر من القافية مغامرة كبيرة قد تودي بطابع القصيدة العربية وتقضي على إرنانها!!*

و لعلنا نستطيع أن نشير إلى بعض هذه العيوب التي تخفف من توهج الإيقاع الموسيقي لقصيدة التفعيلة.

أولاً: كثرة الأخطاء العروضية

منبع الخطأ يكمن بالاستهانة بالكثير من الأصول والقواعد  المتعارف عليها من قبل العروضيين، وغالبًا ما نجد هذا الخلل في البحور ذات التفعيلة المتشابهة كالكامل والرجز والمتقارب وغيرها، فالشاعر لا يعرف هنا ترتيب التفعيلة و جوازاتها مما يوقعه بالخطأ والمغالطة.

ثانياً: افتقاد الموسيقا المتزنة أو الناعمة في النص...

يكمن السبب هنا في جهل الشاعر للشعر العربي السليم، أو افتقاده للذائقة الموسيقية ذات الحساسية العالية، وينتج عن ذلك طابع السرد القريب من لغة النثر .

ثالثًا: طول النص

تشكو قصيدة التفعيلة من غزارة وفرط تدفقها، فكأنّها لا تريد أن تتوقف، وما يزيدها جفافاً انعدام الوقفات الموسيقية وبالتالي صعوبة القفل، وهنا نجد الشاعر حائرًا لا يدري كيف يهتدي إلى القفل فيلجأ إلى الحشو والتّضمين والتكرار، فتغور بذلك منابع الموسيقا العذبة.

رابعاً: التنسيق الخاطئ لمواضع الكلمات....

كثيرا ما نرى وجود كلمة واحدة على السطر، حيث يجعلها الشًاعر سطرًا شعريًّا،وهذا غالباً ما نجده عندما لا يجد الشاعر كلمة مناسبة ترتبط إيقاعيًّا مع قافية سابقة أو كلمة مناسبة قادرة على تعزيز الدور الموسيقي للوحدة الشعرية، وهذا ما يدل على ضعف الشاعر أو عدم معرفته ضرورة توظيف كلمة وحيدة على السطر.

خامساً : توظيف الشعر المحكي ...

يحرص بعض الشعراء على توظيف الشعر الدارج بلغة بلده إمًا بين مقاطع القصيدة أو في المقطع نفسه أحياناً، فيفقد بذلك انسجام القصيدة ويورث العطب في الوزن والموسيقا.

سادسًا : الإكثار من الكتابة النثرية...

يميل بعض الشعراء إلى ارتداء الشكل الفني للكتابة النثرية، كأن يفصل بين المقاطع بخط مائل، أو يهمل علامات الترقيم المهمّة، أو يقوم بترك مساحات بيضاء بين المقاطع اعتقادًا منه أنّه يعمل على توظيف إيقاع البياض.

والطريف بالأمر أنّ هذا العيب غالباً ما نجده عند الشعراء الكبار ذوي الخبرة، كما يقول أدونيس:

كلنا حولها سراب وطين لا امرؤ القيس هزها والمعري طفلها وانحنى تحتها الجنيد انحنى الحلاج والنِّفري/ روى المتنبي أنها الصوت والصدى أنت مملوك هي المالك/......

سابعًا: الحشو الذي يلجأ إليه الكثير من الشعراء، وللحشو ضروب كثيرة نذكر منها:

-إدخال الكلمات أو المصطلحات الأجنبية الناشزة في المعنى والإيقاع، من قبيل ( تكسي، السمبا، الهورا، الويسكي و ....)

وأسماء بعض المدن و الأمكنة من قبيل ( نيويورك، أثينا، هايد بارك، واشنطن ستريت، ....)

و كذلك كتابة بعض التعابير بالحروف اللاتينية من قبيل (USA,   TATOU, .....)

 أو عنونة بعض القصائد بأسماء أجنبية من قبيل ( فرانكو-آراب ، ذا برنس، ...)

  1. استخدام الألفاظ العامية من قبل بعض الشعراء مدللين بذلك على انحدار الخط البياني للحصيلة اللغوية، من قبيل (بقشيش، أسطى، غنوة ...)
  2. إدخال الأرقام

يلجأ بعض الشعراء إلى إدخال بعض التواريخ في قصائدهم التي تتحول إلى مفكرة أو سجل غني بأرقام الحوادث ، قول سميح القاسم في إحدى قصائده :

 ٧-٥-٦٧

لا شيء جديد

١١-٥-٦٧

ضميني...

- كثرة استخدام الأحرف المعبرة عن الأصوات وخاثصة عند جيل الناشئة، من قبيل:

تك تك..تك تك.. تك

دم دم..دم دم.. دم

ثامنًا :  كثرة الضرورات الشعرية ما يجوز منها و ما لا يجوز، فليست كل الضرائر مألوفة، ومهما كان الدافع إليه مسوغًا فإنّما يدلّ على ضعف أو استهانة بأساليب اللغة أو الافتقار إلى الذائقة الشّعرية السّليمة.

تاسعًا : الاقتصار على تفعيلات البحور الصافية...

هذا إجراء من شأنه أن يضيّق مجال الإبداع عند الشاعر، فيورث نصّه الملل  ويحرمه من التنوع و التلوين ،وخاصة في القصائد الطوال.

وقد لجأ بعض الشعراء إلى تنويع التفعيلة في السطر الشعري، لكنهم غالبا ما وقعوا بالخطأ والارتباك.

مجلة الملتقى

الإصدار الر ابع عشر

الإعجابات: 0

التعليقات: 0

المشاهدات: 628