د.فندي الدعبل
مفهوم النص الغائب و صفاته...
كثيرا ما نقرأ في الحقول الأدبية المختلفة بشكل عام، والشعرية بشكل خاص، مصطلح النّص الغائب أو النّص الحاضر أو النّص المسافر، فنخلط بينها وبين مفهوم التّناص، هذا المفهوم الذي تناولته البحوث النقدية و درسته بكثير من التأنّي و التدقيق.
و ربّما كانت البلغارية جوليا كريستيفا هي أوّل من صاغ تعريفاً محدّداً للتّناص بقولها :
* إنّ كلّ نصّ هو امتصاصٌ و تحويلٌ لكثير من نصوصٍ غائبةٍ أخرى*.
نستطيع أن نلاحظ أن تعريف التناص على هذا النّحو إنّما يحتوي بداخله وبشكل آخر تعريفًا للنّص الغائب، عند ذلك يبدو النّص الحاضر الجديد، وكأنه مشكّلٌ من نصوصٍ قديمةٍ أو معاصرةٍ خُزِّنت في الذاكرة الشّعريّة للمتلقي، و هذا يقودنا إلى القول:
إنّ النّص الحاضر يتكّوّن تكوّناً طبيعيّاً من النّصوص الغائبة المحفوظة في الذّاكرة الحيّة، وهو يلغي الحدود الفاصلة بين النّصوص الغائبة ويلغي الملكية الخاصّة للكاتب أو ما يعرف *بموت المؤلف* ، بعدها يتحول النص الحاضر ليصبح رحمًا ولّاداً لنصوص أخرى، أو طرساً يُسمَح فيه بالكتابة الجديدة على الكتابة القديمة بطريقةٍ لا تُخفي النّص الأوّل بل يبقى ملموساً ومقروءاً في النّص الثّاني.
و هذا ما يجعلنا نؤمن بالعلاقة الجدلية بين النّصوص الغائبة والنصوص الحاضرة.
أما عن العلاقة الرابطة بين التناص والنّص الغائب، فيمكن القول بأنّ النّص الغائب هو النّص الذي تُعاد كتابته تناصياً في شكلٍ جديدٍ ، والنّص الغائب يشكل الهيولى أو المصدر الذي يستقي منه النّص الحاضر مادته الإنتاجية سواء أكان مصدراً اجتماعياً أو تاريخياً أو أدبيًّاِ ، أي أنّ النّصوص الغائبة تتسرب بشكل تلقائي وتتشكل في نصوصً أخرى، تمامًا كما نقوم بصهر مجموعة من المعادن لتشكيل سبيكةٍ جديدةٍ نلمس فيها كل مكوناتها وعناصرها لكنّها تنفرد عنهم بالشكل والمقاومة والحجم والقساوة مكتسبةً بذلك صفاتٍ جديدةً .
صفات النّص الغائب..
أولاً اللازمانية و اللامكانية
يتصف النّص الغائب باللازمانية واللامكانية لأنّه قابل للإنبناء بطرق مختلفة، فهو يعبر عن مفاهيم تتكرّر في كلّ زمان ومكان كمفهوم الحياة والموت والحب والحرية والكرامة وغيرها.
ثانيا قوّة الفاعلية
لا بدّ للنّص الغائب أن يكون فاعلاً في النّص الحاضر كي يستطيع إنتاج إضاءة أخرى أو فكرة جديدة، و عدا ذلك يعتبر النّص الغائب نصّاً ميتاً لا قيمة له، تهمله الذاكرة وتعتبره وضيعًا غير جديرٍ بالحياة.
ثالثا القدرة على التّحول
إن رحلة النّصوص من نص لآخر يجب أن تتّصف بالقدرة على الاختراق والتحول والتمظهر بشكل جديد، فالنّص الغائب إن كان قال شيئًا في الماضي فعليه أن يقول شيئاً مغايراً في النًص الجديد.
إن هذه الرحلة أو الهجرة تتطلب القدرة على الحياة في البيئة الجديدة من خلال الحوار والتفاعل وإعادة إنتاج جنس جديد من خلال علاقة نصيّة ذات طاقة حيوية خلّاقة،
فالنّص الغائب قد يكون تاريخياً أو دينياً أو سياسياً، فيصبح نصًّا شعريًّا ذا ملامح خاصة به وواسمة له.
فالنّصوص الحاضرة إذن، هي نصوصٌ مهاجرةٌ أو مسافرةٌ تركت منابتها وأعشاشها وارتدت حُللاً جديدةً، وهي نصوصٌ مرنةً تستطيع أن تتفاعل في فضاءاتٍ جديدة أخرى، فتتزاوج وتتوالد وتبني علاقاتٍ جديدةً ذات طاقاتٍ كبيرةٍ.
رابعاً تنوّع المصادر
النّص الغائب يكون مصدراً مهمًّا للنّص الحاضر، وهو يستمدّ عناصره من الشّعر القديم والمعاصر ومن العلوم الإنسانية والنصوص الدينية والأساطير والحكايات والسيَر، وقد تكون المصادر أدبيّة أو غير أدبيّة.
وقد يُحدث التّناص ضمن الجنس الأدبيّ صفات النّص الغائب، فتسافر النصوص الشعرية من الماضي إلى الحاضر، حيث يقوم النّص الحاضر بكشف النّصوص الغائبة التي ساهمت بتشكيله.
مجلة الملتقى
الإصدار الخامس عشر
الإعجابات: 1
التعليقات: 1
المشاهدات: 690
زيدان عبد الملك
جميل جداً هذا الوشي المحلق على جناح الجمال، دام فيض قلمك يزهر إبداعاً دكتور الغالي