د.فندي الدعبل
سمات الومض الشعري
كنا قد تناولنا في العدد السابق بعض سمات الومض الشعري، وسنتناول في هذا العدد سمات أخرى تبدو للوهلة الأولى أنها غير متخصصة بالومضة الشعرية فقط، فهي غالبا ما توظف في المنظومات الأدبية بشكل عام، ولكن توظيفها في الومضة الشعرية يكتسب حساسية لغوية باذخة التشكيل، وقيمة دلالية واسعة الطيف من حيث التحليل والإسقاط والفوز بالقيم الجمالية للنص.
4- توظيف الثنائيات الضدية...
الثنائيات الضدية هي العلاقة القائمة بين مفردتين ترتبطان معا بعلاقة التضاد، وهي أسلوب بلاغي يهدف إلى إحداث موجة اهتزازية متوترة ترفع حرارة النص وتمهّد للانقلابات السردية.
يقول محمود درويش:
فافرح بأقصى ما استطعت من الهدوء
لأن موتا طائشا ظلّ الطريق إليك
من فرط الزحام وأجّلك.
( ثنائية الموت والحياة )
ويقول زهير :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته و من تخطئ يعمر فيهرم.
(ثنائية القدر الأعمى)
و يقول الشاعر رفعت بدران:
إلى أين يأخذنا البحر يا أبتِ ؟
إلى أول الأرض يا ولدي
و إلى أين تأخذنا الأرض يا أبت ِ؟
إلى آخر البحر يا ولدي!
( ثنائية السكون و الحركة)
و كذلك تقول أميمة نصرالدين :
إن طوتك عني المسافة
أتت بك القصيدة
و لئن ابتعدت الخطى
مرّ بك السؤال!
( ثنائية الاستقرار و القلق)
و تقول ريما خضر:
رأيت اليوم جنازتي
ماشية على ظلال غدي
نعش أمسي
فارغ مني !
(ثنائية الموت و الحياة)
والشعر العربي القديم غني بهذه الثنائيات الضدية التي تدلل على معرفة الشاعر لأهمية هذه الميزة.
فعلى سبيل المثال نجد السموءل يقول:
وما ضرنا أنّا قليل عديدنا
وجارنا عزيز و جار الأكثرين ذليل..
( طباق كامل)
و كذلك قول كعب بن زهير:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكي قصر منها و لا طول.
( طباق كامل)
وكذلك قول النابغة الجعدي:
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا
من الطعن حتى تحسب الجون شقرا
(تضاد لوني)
ويقول نسيب عريضة في رباعياته:
سيان أن تصغي
للنصح أو تغضي
يا نفس فالآتي
مثل الذي يمضي.
وكذلك أيضا:
الطهر لا يدني
و العهر لا يقصي
فالكأس إن تطفح
كالكأس في النقص.
( ثنائيات ضدية و طباق كامل )
و كذلك يقول ميخائيل نعيمة:
و الأرض حولك إما
توشحت بالثلوج
أغمض جفونك تبصر
تحت الثلوج مروج.
( ثنائيات في الرؤية الفلسفية للحياة)
5- الدهشة
تعرف الدهشة على أنها نقلة مبهرة استفزازية يحدثها النص في ذهن المتلقي، ترتكز على جملة من المحفزات الداخلية في المعنى، أو في التراكيب اللغوية الخارجية، و هناك عدة عوامل تساهم في إحداث الدهشة منها:
1- التجديد و الابتكار (كالاشتقاق اللغوي المبهر، أو الأنساق التركيبية البكر)
2- الانقلاب السردي السريع المولد للمفاجأة الصاعقة.
يقول محمود درويش:
هنا عند منحدرات التلال
أمام الغروب و فوهة الوقت
قرب بساتين مقطوعة الظل
نفعل ما يفعل السجناء
ومايفعل العاطلون عن العمل
نربّي الأمل!!
(تجديد و ابتكار في حدي الصورة اللغوي و المعنوي).
و كذلك يقول د. إحسان قنديل:
لقد بُحّ صوتي
لكثرة ما نبحت الكلاب
في صدري !
(ابتكار و تجديد في الصورة).
وكذلك نجد ريما خضر تقول:
شكرا لقلبك
الذي ضخ دمي
فأحيا به مرتين
(تجديد في المعنى).
وتقول د. ديمة الجباعي:
تعال إليّ حين أنا
و حين أُجَنُّ
لا تأت على عجل
و لا تأت على مهل
و لا تأتي على عقل !!
( ابتكار في الصورة).
وكذلك يقول الشاعر جودي العربيد في وصف الأبكم:
رأيته
يريد أن يقول
يريد أن ينطق
لكن آثر الإيحاء شعرا أرجوانيا
(ابتكار في الصورة)
ويقول عمر الخيام في رباعياته الشهيرة:
رأيت خزّافا رحاه تدور
يجدّ في صنع دنان الخمور
كأنه يخلط في طينها
جمجمة الشاه بساق الفقير!!
(ابتكار و تجديد في الصورة الفلسفية في الشعر).
ويقول ميخائيل نعيمة:
وعندما الموت يدنو
و اللحد يفغر فاه
أغمض جفونك تبصر
في اللحد مهد الحياة.
( تجديد على مستوى الرؤية الفلسفية للشاعر و سلامة و أناقة التوظيف الشعري)
مجلة الملتقى
الإصدار التاسع عشر
الإعجابات: 1
التعليقات: 0
المشاهدات: 567